عندما يتعلق الأمر بسوريا وبمنطقة لافانت (Levant) شرق البحر الأبيض المتوسط، يصعب على الغرب الوقوف جانباً والاكتفاء بالمراقبة عن بعد. ليس فقط لأن المنطقة جرى استعمارها خلال القرن العشرين من قبل فرنسا وإنجلترا، وقبل ذلك من الدولة العثمانية، أو لأحداث تعود إلى نهايات القرن الحادي عشر واستمرت مئتي عام ولا تزال آثارها المتمثلة بمجموعة كبيرة من القلاع والحصون (خمسة من أهم هذه القلاع تقع في سوريا) قائمة حتى اليوم.
الدوافع اختلفت، ولكن التدافع والتسابق على حجز مكان في المنطقة التي تشمل سوريا ولبنان والأردن وفلسطين وإسرائيل بقي على حاله. وبدلاً من أن يتحول الموقع الإستراتيجي الذي يربط بين ثلاث قارات إلى مكسب، تحول إلى لعنة حلت بدول المنطقة التي تتصارع عليها قوى عديدة، إلى جانب صراعات داخلية عديدة.
الغرب ليس وحده من يبدي اهتماماً بواحدة من أكثر بقاع الأرض أهمية.. الصين وروسيا ودول الجوار مثل تركيا وإيران لا تخفي اهتمامها بالمنطقة، وهو ما تسبب بمآس وأضرار لشعوبها بدأت منذ عام 1091 وما زالت مستمرة بعد مرور ألف عام.
أنظار العالم اليوم مشدودة إلى سوريا، خاصة مع الكشف في كل دقيقة عن تفاصيل جديدة لحجم المعاناة التي عاشها السوريون على مدى ستة عقود من حكم البعث وعائلة الأسد المدعومة من النظام الإيراني وروسيا، اللذين لم يخفيا أطماعهما للحصول على منفذ إلى البحر المتوسط.
لم يكن من قبيل المفاجأة التسابق الذي نشهده اليوم من قبل دول العالم، خاصة الدول الأوروبية، على لعب دور مؤثر على تطور الأحداث داخل سوريا. وبينما اعتقد الكثير من المحللين أن أوروبا ستنأى بنفسها وتتخذ موقفاً سلبياً من الحكومة المؤقتة التي تقف على رأسها هيئة تحرير الشام المصنفة إرهابياً، رأينا العكس يحدث؛ أي انتظار سيضيع الفرصة للعب دور مؤثر على تطور الأحداث.
وبينما تحزم موسكو حقائبها وترتب عملية نقل معداتها العسكرية وأفراد قواتها المتواجدة في عدة نقاط وقواعد داخل سوريا بعد أن قبلت باستضافة الرئيس الفار وعائلته على أراضيها، سارعت فرنسا إلى رفع العلم على سفارتها في دمشق منهية 12 عاماً من الجفاء بين البلدين، ولكنها أكدت عدم اتخاذ قرار بإعادة العلاقات الدبلوماسية، وأنها ستبقي عينها على الحكومة الانتقالية والتطورات داخل سوريا.
الشعور بالهزيمة لم يقتصر على روسيا فقط، إيران أيضاً عانت من نفس الشعور، خاصة بعد أن أصبح شبه مستحيل الدفاع عن النظام السوري والرئيس المخلوع أمام حجم الجرائم المكشوف عنها، التي ارتكبت على مدار 13 عاماً ضد الشعب السوري وبتواطؤ من الدولتين اللتين وجدتا نفسيهما عاجزتين عن الدفاع عن بشار الأسد.
الصين التي استخدمت حق النقض (الفيتو) 8 مرات لدعم الأسد في الأمم المتحدة، رغم ما عرف عنها من تحفظ، وجدت نفسها أيضاً في وضع حرج. وكانت بكين منحازة للأسد منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية في 2011، ورغم تخفيض وجودها لكنها واصلت بناء علاقات وثيقة معه، وبلغ الود ذروته في زيارة رسمية قام بها الأسد إلى الصين عام 2023.
الجميع كان ينتظر وقف الحرج مع تباطؤ الحديث عن السجون، لكن قبل أن يغلق ملف السجون فتح ملف آخر أكثر بشاعة هو ملف القبور الجماعية، ليحرج عدد المقابر ومن بينها مقبرة جماعية خارج العاصمة دمشق تحوي ما لا يقل عن 100 ألف جثة لأشخاص قتلتهم حكومة الرئيس المخلوع، الراعيين على مدى 13 عاماً لنظام الأسد.
هناك من يقول إن المقبرة الجماعية التي وجدت في القطيفة على بعد 40 كيلومتراً شمال العاصمة السورية، هي واحدة من 5 مقابر جماعية تم تحديدها حتى الآن، وأن رقم مئة ألف هو تقدير متحفظ لعدد الجثث المدفونة في الموقع.
الكشف عن المجازر التي ارتكبت في عهد عائلة الأسد أربك أعداء النظام المخلوع وأصدقاءه، وسلطت التقارير المدعمة بالصور الضوء على التحولات التي حدثت منذ الإطاحة بالأسد على يد هيئة تحرير الشام، التي جاءها الكشف عن هذه المشاهد في الوقت المناسب مبرراً أيّ أساليب لجأت إليها لمواجهة النظام السابق واعتبرت عنيفة حينها. وهي ضربة وجهت لحلفاء الأسد الروس والإيرانيين وفتحت الطريق أمام الدول الغربية لإعادة الاتصالات مع دمشق. وهو ما حدث فعلياً.
لم يمر سوى تسعة أيام على الإطاحة بالأسد حتى بدأت الدول الغربية فتح قنوات للتواصل مع السلطات الجديدة، على الرغم من أنها لا تزال تصنف الهيئة جماعة إرهابية.
الخطوة الأولى جاءت من الحكومة البريطانية التي أرسلت وفداً ضم مسؤولين كباراً، التقاهم قائد الإدارة السورية للحكومة المؤقتة أحمد الشرع. وحرص الشرع على حضور الاجتماع مرتدياً بذلة وقميصاً، في رسالة مضمونها أن من يحكم في سوريا اليوم ليست جماعات معارضة مسلحة، بل مجموعة من الكفاءات والتكنوقراط. وكان حديثه مع الوفد مركزاً على ضرورة بناء دولة القانون والمؤسسات وإرساء الأمن في سوريا، كما تحدث عن دور بريطانيا الهام دولياً، وعن ضرورة استعادة العلاقات بين البلدين ورفع العقوبات عن سوريا، وربط ذلك بعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم.
رسائل الطمأنة لم تقتصر على الوفد البريطاني، كانت هناك رسائل طمأنة أخرى صدرت عن الوفد الألماني والفرنسي والإيطالي. وكشفت الولايات المتحدة عن اتصالات أجرتها مع هيئة تحرير الشام. ولم يجد الاتحاد الأوروبي أيّ حرج في الإعلان عن استعداده لإعادة فتح سفارته في العاصمة السورية مشترطا ثلاثة شروط تشمل مشاركة سياسية لجميع الأقليات واحترام حقوق المرأة واستبعاد روسيا وإيران ونبذ التطرف. وأشار مسؤول مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية توم فليتشر بعد لقاء عقده مع أحمد الشرع إلى إمكانية تزويد سوريا بالمزيد من المساعدات.
موقف هذه المنظمات والدول، ومن بينها الولايات المتحدة التي رصدت جائزة قيمتها 10 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تقود لإلقاء القبض على الجولاني، ما كان ليتبدل خلال 7 أيام لو لم يتم الكشف عن انتهاكات النظام السوري المنهار.
ولا يفسر حجم المخاطر التي قد تنجم عن تفكك البلاد وعودة ظهور تنظيم داعش، وحده، سعي هذه الدول للتواصل مع السلطة الجديدة. التواصل ما كان ليحصل لو لم يسبقه نشر صور لانتهاكات أذهلت العالم. وتؤكد هيئة تحرير الشام التي أعلنت فك ارتباطها بتنظيم القاعدة أنها نأت بنفسها عن الجماعات الإسلامية المتطرفة لكنها تبقى مصنفة “منظمة إرهابية” من جانب الكثير من العواصم الغربية ومن بينها واشنطن، إلى أن تثبت حسن نواياها.
عيون العالم على سوريا، وهو لن يكتفي بتبديل المظهر وتهذيب اللحية.