تعد عملية تعريب العلوم جزءا مهما من جهود الدول للحفاظ على هويتها الثقافية وتعزيز تقدمها العلمي والتقني، وعلى الرغم من الصعوبات والتحديات التي تواجهها، إلا أن العديد من الدول أثبتت نجاحها في تعزيز التعليم بلغاتها القومية، مما يعزز الفهم والاستيعاب ويسهم في إنتاج المعرفة.
ولا توجد إحصائية دقيقة صادرة عن منظمة الأمم المتحدة تحدد عدد الدول التي تدرس العلوم بلغاتها القومية، مع ذلك تشير تقارير المنظمة إلى أن التعليم باللغة الأم يعزز جودة التعلم والشمولية والتنمية، كما أشارت تقارير أخرى إلى أن معظم الدول التي تتصدر العالم تقنيا تعتمد التعليم بلغاتها الأم، مما يعكس أهمية التعليم باللغة القومية في تحقيق التقدم التقني والعلمي فضلا عن الحفاظ على الهوية القومية.
وفي هذا السياق، أكد عدد من الخبراء والأكاديميين في تصريحات خاصة لوكالة الأنباء القطرية /قنا/، إمكانية تعريب العلوم فعليا، وأشاروا إلى أن هناك تجارب يمكن البناء عليها للانطلاق، مؤكدين أن التعريب يعد دافعا تنمويا ونهضويا في العالم العربي.
وقال الدكتور علي أحمد الكبيسي رئيس قسم اللغة العربية بجامعة قطر سابقا، وعضو المجلس العلمي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، إن تدريس العلوم بالعربية يسهم في تقريب العلوم للطالب ويزيد من قدرته على الفهم والاستيعاب وهو أجدى له من تعليمه إياها بلغة أجنبية غير مجيد لها، كما يسهم التعريب في نشر المعرفة العلمية بين أفراد المجتمع، ويفتح لنا أبواب الإسهام المتميز في مجالات الإبداع والابتكار، ولذلك فهو أمر حتمي إذا أردنا المشاركة الفاعلة في إنتاج المعرفة والحضارة المعاصرة، وهذا ما فعله علماء الحضارة الإسلامية حين ترجموا معارف من سبقهم، وكذلك فعل علماء الغرب حين ترجموا علوم الحضارة الإسلامية في أوائل عصر النهضة الأوروبية الحديثة.
وأشار إلى أن تدريس العلوم بالعربية ظهر مع بدايات عصر النهضة العربية في أوائل القرن التاسع عشر، وخير مثال على ذلك تدريس الطب والهندسة والزراعة في محمد علي في مصر 1825، وكذلك في لبنان في منتصف القرن التاسع عشر حيث كان تدريس الطب والفيزياء والكيمياء والصيدلة والرياضيات والفلك باللغة العربية، ولكن هذه الجهود توقفت بسبب الاستعمار الغربي الذي حارب اللغة العربية واستبدل بها اللغة الإنجليزية.
وأضاف الدكتور علي الكبيسي أن الدعوة إلى تعريب العلوم ما زالت مستمرة، وهو عمل كبير يحتاج إلى تعاون وتنسيق بين اللغويين والعلماء المختصين وما يتبع ذلك من توفير الدعم المادي للقيام به، منوها بوجود مؤسسات أنشئت للتعريب مثل مكتب تنسيق التعريب بالرباط – المملكة المغربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم /ألكسو/، وقد أصدر معاجم متنوعة في عدد كبير من المجالات، كما أنشئت الجمعية المصرية لتعريب العلوم سنة 1995، وأنشئ مجلس وزراء الصحة العرب المركز العربي لتأليف وترجمة العلوم الصحية سنة 1980م إيمانا بأهمية تعليم الطب باللغة العربية، وجهود مؤسسة الكويت للتقدم العلمي التي قامت بتعريب مجلة العلوم الأمريكية.
ونوه عضو المجلس العلمي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية بجهود مجمعي اللغة العربية في كل من القاهرة ودمشق في تعريب المصطلحات العلمية وإصدار عدد من المعاجم العلمية بالعربية، مؤكدا أن نجاح هذه الجهود تحتاج إلى الإيمان بأهمية تعريب العلوم واتخاذ كافة الإجراءات العملية لجعله واقعا مشهودا وليس أملا معقودا.
وقال الكبيسي إن العديد من دول العالم تعتمد تعليم العلوم بلغاتها مثل: تركيا، روسيا، الصين، كوريا، اليابان، إيطاليا، حيث تقدم هذه الدول نماذج ناجحة لأهمية التعليم باللغة الوطنية والمساهمة الفعالة في البحوث العلمية والصناعة والتكنولوجيا من أجل تحقيق مزيد من التطور والرقي إلى مصاف الدول المتقدمة.
ومن جهته، أوضح الدكتور مرزوق يوسف الغنيم الأمين العام للمركز العربي لتأليف وترجمة العلوم الصحية في الكويت، أن المركز يتبع جامعة الدول العربية - مجلس وزراء الصحة العرب، ومقره الدائم دولة الكويت، وأشار إلى صدور قرار إنشائه في شهر مارس 1980م، بهدف دعم حركة التأليف والترجمة باللغة العربية وتشجيعها في العلوم الصحية، بالإضافة إلى ترجمة البحوث الطبية إلى اللغة العربية، وإعداد المناهج الطبية لتطبقها كليات الطب والمعاهد الصحية.
وقال: إن فلسفة المركز تركز على أن تعريب العلوم، لا سيما الطب، يعتبر مطلبا عربيا يتجاوز المتخصصين ليصل إلى جمهور المثقفين العرب الذين يعتزون بلغتهم كونها متجددة وقادرة على التعبير العلمي الدقيق، وأكد أن اللغة العربية تلعب دورا محوريا في حمل مشاعل التنوير، وإعداد مشروع حضاري عربي نهضوي مأمول، وأضاف "وإذا أضفنا إلى ذلك الإمكانات البشرية، والثروات، والقدرات الاقتصادية، فإن التكامل بين هذه العوامل يمكن أن يحقق حلم مشروع نهضة الأمة"، مشيرا إلى أن العربية أسهمت في مسيرة الحضارة البشرية، وكانت لغة العلم والثقافة، وطوعت الثقافات القديمة لها، ثم أبدعت وابتكرت، وقدمت خلاصة تجاربها إلى أوروبا في مختلف ميادين المعرفة منذ القرن الثاني الهجري.
وأكد الأمين العام للمركز العربي لتأليف وترجمة العلوم الصحية، حرص المركز على إقامة مواسم ثقافية سنوية تتناول اللغة العربية وتعريب الطب وترجمته، كما يواصل المركز إصداراته المتنوعة، والتي بلغت 714 إصدارا، منها، 238 كتابا في سلسلة المناهج الطبية العربية المترجمة والمؤلفة، و24 مجلدا في سلسلة الأطالس الطبية المتخصصة، و13 مجلدا في سلسلة المعجم المفسر للطب والعلوم الصحية، و 208 كتب في سلسلة الثقافة الصحية العامة، بالإضافة إلى 72 عددا من مجلة (تعريب الطب) التي تواكب الأحداث الصحية، وتزود القراء بالمعلومات الطبية اللازمة للوقاية من الأمراض المختلفة، ويتم توزيع جميع إصداراته الورقية على شريحة واسعة من الجمهور المستهدف في الدول العربية.
وشدد على أن المركز العربي لتأليف وترجمة العلوم الصحية قد تغلب على العديد من المعوقات، لكن جهوده البحثية في التعريب تحتاج إلى قرارات على المستوى السياسي والتعليمي والتربوي التي تحول الآمال والأماني إلى مرحلة التطبيق الشامل لتعريب التعليم الجامعي.
ومن جهته، أكد الدكتور محمد يونس الحملاوي، أمين عام الجمعية المصرية لتعريب العلوم وأستاذ هندسة الحاسبات بجامعة الأزهر، أن التطور السريع في مجالات العلوم المختلفة يدعونا إلى تقليص الفجوة مع الدول المتقدمة للوصول إلى مستوى العلم والتكنولوجيا المتقدمة، ولتحقيق ذلك لابد من تعليم العلوم بلغتنا، مشيرا إلى أن أستاذ الجامعة يحمل مسؤولية تعليم العلوم باللغة العربية انطلاقا من واجبه الدستوري والقانوني والأخلاقي. فهو القاطرة التي ستدفع خلفها التعليم العام وكل مجالات المجتمع، لتأتي بعد ذلك مسؤولية الحكومات ومنظمات المجتمع المدني والمفكرين والإعلاميين لتحقيق هذه الغاية.
وحدد الدكتور الحملاوي الثمار المرجوة من التعريب في تنمية للمجتمع ماديا ومعنويا وثقافيا حيث سيتم تعزيز التجانس والترابط المجتمعي، وصب مختلف منتوجات المجتمع بلغة واحدة صحيحة في بوتقة الهوية، كما ستتوجه البحوث لتعالج مشاكل المجتمع بدلا من أن تـصب في مصلحة الأجنبي وسترتفع معدلات جودة التعليم والإعلام وترتقي لغة التواصل المجتمعي، ما يرفع معدلات التنمية المجتمعية بكافة جوانبها.
وشدد الأمين العام للجمعية المصرية لتعريب العلوم، على أن التعريب لا يتعارض مع تعلم اللغات الأجنبية والتي اعتبرها ضرورة، بينما التعليم باللغات الأجنبية قاصرا ،على حد وصفه، لافتا إلى أن تعلم اللغات الأجنبية في الدول الأوروبية يأتي بعد سن الثانية عشرة وبمعدل حصة واحدة أسبوعيا تزداد إلى حصتين أسبوعيا في المرحلة الثانوية.
وأوضح الحملاوي، أن إحصاءات منظمة الأمم المتحدة تشير إلى هناك 25 دولة في صدارة العالم تقنيا، وتدرس بلغاتها القومية في مختلف مراحل التعليم الجامعي وقبل الجامعي، يتراوح عدد سكانها بين أربعمائة ألف نسمة وأكثر من مليار نسمة، بينما لا توجد دولة عربية واحدة في هذه القائمة.
واستعرض الدكتور محمد يونس الحملاوي جهود الجمعية المصرية لتعريب العلوم، وأبرزها تنظيم العديد من المؤتمرات والندوات العلمية في مختلف القطاعات، بالإضافة إلى التعاون البحثي مع مجمع اللغة العربية بالقاهرة واتحاد المجامع العلمية العربية ومع النقابات والجمعيات اللغوية العربية. وأشار إلى أن الجمعية أطلقت مشروع تعريب التعليم والعلوم والمعارف، حيث قامت بوضع أكثر من 600 كتاب علمي باللغة العربية للمرحلة الجامعية الأولى في تخصصات مثل الطب والهندسة والعلوم والصيدلة وغيرها، على موقعها على شبكة الإنترنت للتحميل المجاني.
ولفت إلى أن جهود الجمعية متواصلة وتحقق يوما بعد يوم تقدما ملموسا، حيث يلتحق المزيد بركب التعريب رغم التحديات الكبيرة والطوفان المضاد. ومع ذلك، أشار إلى أننا لم نصل بعد إلى الكتلة الحرجة التي يمكنها تحقيق التغيير الشامل للواقع، إلا أن قضية تعريب العلوم لا تزال مستمرة على السطح منذ أكثر من ثلاثة عقود، وستستمر في السعي لتحقيق أهدافها النبيلة.
وبدورها، قالت الدكتورة ربا رياض خمم رئيسة قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جامعة ليدز في المملكة المتحدة، إن معظم الجامعات العربية تدرس العلوم باللغة الإنجليزية، يرجع ذلك إلى الرأي القائل بأن تدريس العلوم بالعربية يساهم في تعقيد حال الطالب العربي عندما يدرس كل شيء بالعربية ثم يعود مرة أخرى للدراسة بالإنجليزية، ربما تكون مسألة صعبة على المدى القصير، ولكن على المدى الطويل والإستراتيجي من خلال تعريب العلوم يمكننا بناء جيل كامل يمتلك المصطلحات العلمية وقادر على إنتاج مصطلحات جديدة باللغتين العربية والإنجليزية.
وأضافت الدكتورة ربا رياض، أن واقع الحال يوضح أن مجتمع الأطباء أو المهندسين مثلا يتعاملون مع محيطهم العربي، وبالتالي فإن رسالتهم بالعربية تكون أسهل، خاصة عندما يكون التعامل مع العامة.
وأشارت إلى أننا بحاجة إلى أن يأتي التغيير من أبناء العربية أنفسهم عندما يدركون أنهم في حاجة ملحة للتواصل مع مجتمعاتهم وليس فقط مع الأجنبي، لأنه مع مرور الوقت أصبحت اللغة الأجنبية هدفا أساسيا، وسوف نجني الثمار على المدى البعيد، ويكفي أن لغة مثل العبرية تم إحياؤها بعد أن كانت قديمة مهجورة، واليوم ينشرون أبحاثهم بلغتهم فكيف بالعربية المتجذرة في التاريخ ألا يمكننا أن نقدمها كلغة علم؟!.
ومن ناحيته، قال الدكتور حسن حلمي أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة الحسن الثاني بالمغرب، إن هناك دعوات للتعريب منذ عقود، لكنها لم تكن جادة بشكل حقيقي، لأن نجاح التعريب أو اعتماد أي لغة يتطلب إرادة سياسية قوية تساعد في تنفيذ هذا المطلب، حتى في فترة ستينيات القرن الماضي ومع النزعات القومية العربية كان التعليم باللغة الإنجليزية ولم تكن هناك جدية لإحلال العربية محل اللغات الأجنبة خصوصا عند النخب المتعلمة في الغرب.
وأضاف الدكتور حسن حلمي أن التعريب ظل شعارا حتى في المغرب العربي، بسبب سيادة اللغة الفرنسية حتى اليوم في الكتابات الإدارية، فالعربية تبقى مهمة بحاجات شعبية مثلا في القضاء في الأحوال الشخصية أما في الأشياء المالية المهمة يتم الاعتماد على الفرنسية، فدعوات التعريب لم تتحرك نحو التنفيذ، وإن كانت سوريا قد اتجهت نحو تدريس الطب والعلوم بالعربية في الستينات وهي تجربة جيدة لكنها كانت تابعة لإرادة سياسية وقتها وظلت محدودة في سوريا، مشددا على أن دعوات التعريب في شمال إفريقيا مثلا تونس والجزائر والمغرب مازالت تقاوم من طرف الفرانكفونيين ما يستدعي قرارات سياسية للتنفيذ.