بعد أسابيع من التردد وعدم اليقين بشأن مستقبله السياسي، فاجأ جاستن ترودو الكنديين بإعلان استقالته من منصب رئيس الوزراء وزعامة الحزب الليبرالي، لكنه أوضح أنه سيبقى على رأس الحزب والحكومة حتى اختيار خليفته.
وجاء قرار ترودو بالتنحي عن المنصب، الذي شغله لنحو عقد من الزمان، في الوقت الذي تشهد فيه حظوظ حزبه الليبرالي السياسية هبوطا حادا في استطلاعات الرأي، بعد أن عانى من خسارة معاقل سياسية رئيسية في الانتخابات الفرعية الأخيرة، واستقالة وزراء بارزين في حكومته.
وقد وضعت استقالة ترودو كندا أمام خيارات سياسية عسيرة قبل الانتخابات العامة التي ستجرى بحلول 20 أكتوبر المقبل على أقصى تقدير، وأحدثت هزة في الحزب الليبرالي الحاكم منذ عقود، وأدت لانطلاق سباق على زعامته يمكن أن يحدد مستقبله ومصيره.
وأبرز ترودو، في بيان استقالته، أن بلاده تستحق خيارا حقيقيا في الانتخابات المقبلة، منوها بأن المعارك الداخلية في الحزب جعلت من المستحيل عليه مواجهة منافسيه السياسيين، خاصة بعد خسارته حلفاءه الرئيسيين في الحزب، وفي ظل احتمالية تصويت بحجب الثقة من قبل حزب المحافظين المعارض والحزب الديمقراطي الجديد، الأمر الذي جعله يدعو إلى تعليق عمل البرلمان الكندي حتى 24 مارس المقبل، بما سيمنح الليبراليين حوالي ثلاثة أشهر لإجراء انتخابات داخلية لاختيار زعيمهم القادم والذي ترجح التوقعات ألا يظل في السلطة لفترة طويلة.
وأظهرت استطلاعات حديثة للرأي في كندا أن كريستيا فريلاند نائبة رئيس الوزراء السابقة ستكون أفضل مرشحة لقيادة الحزب الليبرالي، بنسبة 23% من المشاركين، وسيكون محافظ بنك كندا السابق مارك كارني هو اختيار 17% من المشاركين، في حين سيختار 13% من المشاركين وزيرة الخارجية الحالية ميلاني جولي.
وكان رئيس الوزراء الكندي المستقيل قد تعرض في ديسمبر الماضي لضربة قوية، بعد استقالة حليفته كريستيا فريلاند نائبة رئيس الوزراء ووزيرة المالية من الحكومة منذ فترة طويلة "بعد أن فقدت الثقة فيه"، ومن هنا تزايدت الدعوات إلى استقالة ترودو داخل حزبه، حتى انزلق موقفه، مع نهاية العام الماضي وبداية العام الحالي، من كونه صعبا إلى موقف لا يمكن الدفاع عنه.
ويعد العامل الاقتصادي من أبرز الدوافع التي تقف خلف تراجع شعبية ترودو، إذ شهد العام 2024 نموا أقل من المتوقع وزيادة في نسبة التضخم، ما جعله في مرمى انتقادات حادة بسبب فرض "ضريبة خضراء" على الانبعاثات الكربونية. ورغم أن الكنديين أيدوا هذه الخطوة عند إطلاقها في عام 2019، إلا أن الضريبة ارتفعت من 25 دولارا إلى 85 دولارا للطن خلال خمس سنوات، ما أثار استياء واسعا وسط موجة التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة.
كما فشل ترودو في إيجاد حلول فعلية لأزمة السكن الحادة التي تعاني منها كندا، والتي تفاقمت خلال السنوات الماضية، وأصبحت من بين الأسوأ عالميا، ليصبح امتلاك منزل في كندا "حلما صعب المنال حتى لفئة كبيرة من الطبقة المتوسطة".
وازداد الوضع سوءا بالنسبة لترودو بعد فوز دونالد ترامب بولاية رئاسية جديدة في الولايات المتحدة، فقد هدد الرئيس الأمريكي المنتخب بفرض رسوم جمركية تصل إلى 25 % على السلع الكندية، وهو أمر يعتبره خبراء الاقتصاد مدمرا للاقتصاد الكندي المعتمد على التجارة.
وردا على استقالة ترودو، قال الرئيس الأمريكي المنتخب "إن كندا يمكن أن تتجنب الرسوم الجمركية، وإن الضرائب ستنخفض بشكل كبير إذا اندمجت مع الولايات المتحدة".
وعلى الرغم من أن ترامب أشار إلى أن "العديد من الناس" في كندا يحبون أن يصبحوا جزءا من الولايات المتحدة، إلا أن استطلاعا للرأي أجري في 10 ديسمبر الماضي، أظهر أن 13% فقط من الكنديين يتفقون مع هذا الرأي.
أما البيت الأبيض، فقد وصف ترودو بأنه صديق "ثابت" للولايات المتحدة"، منوها بأن إدارة بايدن عملت مع ترودو في مجموعة من القضايا باعتبارهما حليفين مقربين وعضوين في مجموعة السبع.
وأوضح أن الرئيس بايدن ممتن لشراكة رئيس الوزراء الكندي في كل ذلك، والتزامه بالدفاع عن أمريكا الشمالية من التهديدات الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين باعتبارها المنطقة الأكثر تنافسية اقتصاديا في العالم.
ويعتقد المراقبون أن تهديدات ترامب بالرسوم الجمركية شكلت الشرارة التي أشعلت فتيل أزمة ووضعت النهاية لزعامة ترودو، فقد استقالت نائبته السابقة كريستيا فريلاند من منصبها متهمة ترودو بالفشل في أخذ هذا التهديد على محمل الجد على الرغم من سفره إلى منزل ترامب في ولاية /فلوريدا/ والتزام كندا بعدد من المبادرات لتحسين الأمن على طول حدودها مع الولايات المتحدة .
كما ساهم ارتفاع تكاليف المعيشة، وتزايد المشاعر المعادية للهجرة، في تزايد خيبة الأمل في زعامة ترودو، وفقد كثير من الكنديين ثقتهم بترودو مع تزايد الوعود الانتخابية غير المحققة، إذ وعد ترودو في بداية ولايته عام 2019 بتحسين الرعاية الصحية والتعليم، لكن ذلك لم يتحقق بالشكل المتوقع، وتعرضت حكومته لانتقادات متزايدة بشأن زيادة الإنفاق العام، ما أدى إلى تفاقم الديون، وأدت جائحة كورونا السنوات الماضية إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في كندا، التي وعد ترودو بتحسينها، ولم يشعر الكنديون بأن برامج الدعم التي أطلقتها الحكومة كافية لمعالجة الضرر الاقتصادي.
ومن المتوقع أن تقترح الحكومة الكندية ميزانيتها الجديدة بحلول أبريل المقبل، وهي العملية التي من شأنها أن تسمح لأحزاب المعارضة بإثارة التصويت بحجب الثقة، وانهيار الحكومة والتوجه إلى انتخابات مبكرة، علما بأنه يجب أن تتم الدعوة لإجراء انتخابات عامة في كندا قبل شهر أكتوبر المقبل، ولكن استقالة ترودو تجعل من المرجح أن تتم هذه الانتخابات مبكرا، في الربيع المقبل.
وقد تعهدت جميع أحزاب المعارضة الكندية بإسقاط حكومة الأقلية التي يرأسها ترودو إذا أتيحت لها الفرصة، وأظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة حصول الحزب الليبرالي على 16% من الدعم الشعبي، وهو أسوأ موقف للحزب قبل الانتخابات منذ أكثر من قرن.
وبعد أن حقق حزب المحافظين تقدما كبيرا في استطلاعات الرأي، حاول الحزب على مدى أشهر إثارة مسألة الانتخابات، التي يفترض أن تجرى قبل أكتوبر المقبل من خلال سلسلة تصويتات حجب الثقة في البرلمان الكندي، ومن المرجح أن يفعل ذلك مرة أخرى في مارس المقبل، ومن المتوقع أن يفوز حزب المحافظين الذي يرأسه بيير بواليفير بحكومة أغلبية في ضوء استطلاعات الرأي، حيث يتقدمون على الليبراليين بفارق 24 نقطة، ولكن هذه النتيجة قد تتغير بشكل كبير اعتمادا على أداء الزعماء الجدد الذين سيختارهم الحزب الليبرالي لقيادته.