وسط موجة غير مسبوقة من الدعم الأمريكي للعمليات العسكرية الإسرائيلية، حدث ما لا يمكن تصوره: فاز كتاب عن محنة الفلسطينيين بجائزة بوليتزر الأدبية العالمية. وقد استضافت جامعة جورجتاون في قطر الكاتب الشهير ناثان ثرول مؤلف هذه الرواية في حوار مثير يفتح الباب على مصراعيه للتحديات الفكرية، الذي استضافه وحاوره العميد صفوان المصري، عميد جامعة جورجتاون في قطر، حول كيفية تجاوز أعمال ناثان ثرول الأدبية محاولات الاستقطاب واكتسابه إشادة واسعة النطاق. أسر ناثان ثرول، وهو كاتب أمريكي مقيم في القدس، قلوب الحضور بتأملاته في عمله الحائز على جائزة بوليتزر وهو رواية واقعية بعنوان « يوم في حياة عابد سلامة». وهو الرواية الأدبية التي قوبلت بترحاب واسع، حيث يبحث ثرول في ثناياه بأعماق عواقب ومضاعفات حادث مأساوي تعرضت له حافلة مدرسية في فلسطين وعواقب ذلك على حياة الناس العاديين من أهل المدينة، باعتباره تحفة واقعية.
يتحدى الكتاب الأكثر مبيعا عالميا، المترجم إلى أكثر من عشرين لغة، القراء وقدراتهم على مواجهة كيفية تشكيل الأنظمة السياسية لأكثر لحظات الحياة عمقا وحميمية. كما تم اختياره كأفضل خيارات المحرر لمراجعات الكتب بمؤسسة نيويورك تايمز وإدراجه ضمن أفضل الكتب لهذا العام من قبل 18 مؤسسة نشر. يذكر أن معظم الأعمال الأدبية لثرول تلمس أعماق الوجدان بشكل مؤثر وبقدر ما تسبب التوتر والقلق.
وقال الدكتور صفوان المصري عميد جورجتاون: « أخذتنا في رحلة في أغوار النفس البشرية لعابد وابنه، ومن خلال سرد هذه الأحداث المفعمة بالمشاعر الإنسانية، رويت التاريخ بسرديته الواقعية وقدمت لقطة حقيقية من مشهد النضال الفلسطيني المعاش، بأسلوب استثنائي، ومن خلال ذلك جعلته متاحا للقارئ الذي لا يعرف السياق بالكامل ولا الابعاد التاريخية للقضية».
الوصول إلى مشاعر الناس
يشير الروائي والاديب المتميز ناثان ثرول إلى الواقع المعاش فيقول: «اردت الوصول إلى مشاعر الناس، فمن متابعاتي ومشاهداتي للناس الذين يأتون إلى فلسطين وردود أفعالهم تجاه الفصل العنصري والقمع والقهر كانت مشاعرهم أكثر أهمية، وبقيت آثارها في النفوس لفترات أطول من أي دفوع تاريخية أو حجج وادلة ثقافية. وكان طموحي الثاني من هذا العمل هو تعليم الكثيرين ممن لا يعرفون سوى أقل القليل عن فلسطين، لتزداد معرفتهم وثقافتهم بها بقدر كبير».
لم تكن رحلة ثرول كصحفي وأديب رحلة عادية. فمقالاته وتقاريره الصحفية ونقده الثاقب - المنشورة في لندن ريفيو أوف بوكس، وصحيفة الجارديان، مجلة نيويورك تايمز، ونيويورك ريفيو أوف بوكس للكتب - تدفع باستمرار حدود الفكر التقليدي. وكان لكتابه السابق، وكان بعنوان «اللغة الوحيدة التي يفهمونها»، دور ملموس في تعزيز سمعته في قول الحقيقة بقدر نادر من الجسارة والشجاعة.
ويشير ثرول متأملا بعمق في ردود الفعل التي جلبتها روايته الأخيرة إلى حاجة ملحة بداخله دفعته لصياغة هذه الرواية فيقول: «تغلغلت الرغبة في تأليف هذا الكتاب بداخلي تدريجيا نابعة من إحساس قوي باليأس... وقد أنجزته لإحداث نوع من التغيير المفاهيمي أراه ضروريا «.
وقال الكاتب الأمريكي نيثان ثرال في تصريحات صحفية على هامش الندوة إن هناك حركة قوية، وهي في تزايد مستمر، لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، لافتاً إلى أن الفترة الأخيرة شهدت تغيراً مهماً للغاية يظهر جلياً من خلال الحشود التي تدعم الفلسطينيين في شوارع لندن ونيويورك، وأنه على الرغم من هذه التحركات على المستويات الشعبية، إلا أن القوة السياسية الحقيقية، تصب في مصلحة إسرائيل الآن.
وأشار ثرال في تصريحات صحفية، إلى أن التفاؤل بشأن التغير الجوهري هو تفاؤل على الأمد البعيد، وأن الشباب الذين تحركوا لتأييد حقوق الفلسطينيين، وهم في العشرينيات من عمرهم، قد يكتسبون النفوذ السياسي الحقيقي بعد عقدين من الزمان، وأن هذا أمر هام للغاية، ولكن يبقى توازن القوى الحالي مائلاً بالكامل لصالح إسرائيل.
ولفت إلى اعتقاده أن الأدب يجسد وضعا مليئا بملايين المآسي، كما في فلسطين، مضيفاً: عندما يتحدث الناس عن الأوضاع الجارية في غزة، يتحدثون بالأرقام 46 ألفا و47 ألفا و48 ألفا، والأدب لا ينكر هذه الأرقام، نظراً لأهميتها في اظهار الحقائق، وعلينا أن ننتبه إليها جيداً، ولكن الهدف علينا أن لا نكتفي بالأرقام، وعلينا أن نفهم جيداً ما تعنيه كل حالة من هذه الـ46 ألف حالة، فكل واحدة منها هي قصة منفصلة بالتأكيد.
وأضاف: عملت مع مجموعة الأزمات الدولية، وهي منظمة دولية رائدة، لمدة 10 سنوات، وكان عملي يتمثل في التحدث إلى الدبلوماسيين والصحفيين والمحللين، ولكن بعد كل هذا العمل أدركت أنه كان مضيعة للوقت، فحديثي كان إلى جمهور نخبوي، لن يكون مستعدا إلا لإجراء تغييرات صغيرة جدا وتدريجية.
وتابع: في حالة مثل فلسطين، تحتاج إلى تغير كبير على مستوى العالم، وبناء فهم مختلف تماما لما هو عليه الأمر الآن، فالأمر لا يتعلق بإجراء تغيير صغير تدريجي، ولذلك كان هذا النهج خاطئا بالنسبة لي. وأوضح أن احداث تغيير في فلسطين، يبدأ بالعمل على مستوى فهم الناس العاديين، وأن يتم من خلال السرد والحكي، وليس محاولة إقناع سياسي رفيع المستوى.
وعن أكبر التحديات التي واجهته في تأليف كتابه، قال: أكبر تحدٍ كان تحديًا بنيويًا، لأنني كنت أواجه أهدافًا متنافسة، كما أردت أن يقدم الكتاب للقارئ القصة الكاملة عن إسرائيل وفلسطين، وليس عن حالة فردية، فقد يكون هناك شخصية مثل الطبيبة هدى ضبور، وقصتها تعكس قصة المنفى الفلسطيني، ومن خلال قصة عائلتها، يتعرف القارئ على النكبة.
ورداً على رأيه حول تأثير الكتاب في ظل التأثير الذي أحدثته منصات التواصل الاجتماعي، قال: مع الوقت تزداد صعوبة جعل الطلاب الجدد يقرأون كتابًا كاملًا، فأنا على علم بأن العالم يقرأ أقل وأن مدى انتباهنا أصبح أقصر، وهناك الكثير من الملهيات، ومن الصعب الجلوس لقراءة كتاب، وهذا صعب بالنسبة لي أيضًا، فأنا أواجه نفس الملهيات.
وأضاف: الكتاب لن يكون له نفس التأثير الذي كان عليه قبل 50 عامًا، لكن الأمر لا يقتصر فقط على الكتب، فحتى الأفلام أيضًا كانت في الماضي الحدث الثقافي الأكبر، عندما كان فيلم جديد يصدر، كان الجميع يعرفون عنه والجميع يشاهدونه، الآن أشعر أن الأفلام تصدر، ولا أحد يهتم، وأن الثقافة بأكملها أصبحت مشتتة ومنقسمة، ولكنني ما زلت أؤمن بقوة الكتب.
وفي ختام الندوة، وتعليقا على هذه الرواية أكد العميد صفوان المصري أهمية السرد الروائي الواقعي بتلك الدرجة من القوة وهذا المستوى من البلاغة الوصفية: « لقد كنا محظوظين حقا لوجودك معنا، فعملك الأدبي بالغ الأهمية لتوثيق لقطة حقيقية من مشهد الواقع الفلسطيني المعاش».