الرياض - واس
تحظى الإبل في المملكة بعناية واهتمام كبيرين، وهي والسعوديون صنوان لا يفترقان على مر الأزمان، وظلت تلك العلاقة الأبدية تنتقل من جيل إلى جيل حتى وقتنا الحاضر.
وقديمًا ولمكانة الإبل عندهم كانوا يخلدونها بالنقش على الصخور، كما وثقت الاكتشافات الأثرية الحديثة تلك العلاقة بين إنسان الجزيرة العربية والجمال مُنذ آلاف السنين، وتنتشر على صخور جبال العُلا وغيرها من المواقع مجموعات كبيرة من النقوش والرسومات المتنوعة، وشكلت الإبل بطبيعة الحال جزءًا كبيرًا منها.
وتعد تلك النقوش الموجودة في عديد من مناطق المملكة شاهدًا ثقافيًا وتاريخيًا يبرهن على أهمية الإبل في حياة الأجداد، حيث لا يزال كثير منها صامدًا رغم مرور الزمن، عبر من خلالها الإنسان عن علاقته العميقة بالبيئة المحيطة، إذ كان سكان المملكة يرمزون لملكية إبلهم ومواشيهم بـ "الوسم" وهو عبارة عن رمز أو علامة بأشكال وأحجام مختلفة عن طريق الكي أو القطع؛ بهدف تحديد ملكيته، وما زالت مرسومة ومنقوشة في جبال المملكة وأوديتها.
يقول أستاذ الكتابات العربية القديمة الدكتور سليمان بن عبدالرحمن الذييب: "إن نحت الإبل يمثل النسبة الكبرى من الفنون الصخرية في شبه الجزيرة العربية، الدال على الأهمية المُعطاة لهذا الحيوان مِن قبل مَن استوطن المُنطقْة في عصورها القديمة، ولا غرابة في ذلك فاستئناس الجمل واستخداماته المُتعددة، والأوجه المختلفة لحياته، جعلت له مكانة كبيرة لدى سكان شبه الجزيرة العربية، حتى إنه سيطر على خيال فنانها قديمًا، فظهر ذلك واضحًا على نحته ومصوراته، ورسوماته لهذا الحيوان، كما يدل أيضًا على وجود بيئة صالحة ومراعٍ مناسبة لمثل هذه الحيوانات المهمة في حياة سكان تلك المواقع".
وسُجل -بحسب الذييب- أقدم نحت للجمل العربي ذي السنام الواحد المعروف اليوم داخل شبه الجزيرة العربية في موقعين كليهما في المملكة، حيث عثر على نحت جمل بري صغير يشبه الجمل المعروف الآن، وتبين من دراسة أدواته الحجرية أنه يعود إلى فترة العصر الحجري القديم.
وصاحب الفن الصخري رموز ووسوم عديدة الأشكال، تحمل عناصر هندسية تنتشر بكثرة في مواقع مختلفة من شبه الجزيرة العربية، خصوصًا في المملكة الذي يعد انتشارها فيها أمرًا فريدًا من حيث كميتها التي لا يوجد مثلها في الأقطار المجاورة، وهذه الوسوم التي تدمغ على أجسادها تدل على ملكية الإبل (عرب الصحراء)، أفرادًا أو جماعات (العشيرة والقبيلة)، أما إذا كانت هذه الرموز والوسوم على الواجهات الصخرية، فالأقرب أنها تشير إلى ملكية سكان الموقع لأماكن الرعي بما عُرف لاحقًا في الفترة الإسلامية بنظام الحمى.
وتمثّل الإبل رمزًا للصمود والقوة والرفيق الوفي في الصحاري والقفار، ففضلًا عن قيمتها التجارية والاقتصادية والغذائية والاستئناس بها والانتفاع من لحومها ووبرها، تجتمع فيها مزايا اقتصادية عدة.
وكان للإبل دور كبير في توحيد المملكة على يد المغفور له -بإذن الله- الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، ورجاله الذين وحدوا ترابها على ظهور الخيل والإبل، وكانت "مصيّحة" واحدة من أبرز الإبل التي ارتبط اسمها بتاريخ الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وتميزت بسرعتها الفائقة وقدرتها على تحمل المشاق، ما جعلها مثالية للمهام السريعة والمهمات الحساسة في ذلك الزمن، كما ارتبطت الإبل قديمًا بالحج للبيت العتيق، حيث كان الحجاج يمتطونها في الذهاب لأداء فريضة الحج.
ويربي السعوديون عديدًا من سلالات الإبل التي تنقسم إلى ثلاث سلالات تندرج تحتها تقسيمات ثانوية تعتمد على ألوانها منها "المجاهيم" و"المغاتير" وفئة "الحُمر"، وتعرف المجاهيم من الإبل بأنها الأكثر انتشارًا في وسط وجنوب المملكة وهي الإبل الملحاء شديدة السواد، وتتميز بإدرارها الحليب وكبر حجمها، بينما تنتشر المغاتير في شمال المملكة، ولها أربع درجات لونية هي الوضحاء، والشقحاء ، والشعلاء ، والصفراء، وكذلك فئة الحُمر وهي متوسطة الحجم وتنقسم إلى سلالات ثانوية وهي العمانية أو الباطنية ، والحرائر، والحضنية، والآركية، ويعد لحم الحاشي "صغير الإبل" من اللحوم المرغوبة لدى المستهلكين، كما ارتبط قديمًا الحليب الذي ينتج من خلفات الإبل "التي وضعت مولودها حديثا" بعادات الكرم والضيافة في الثقافة المحلية لبعض المناطق، حيث يقدم مع التمر للضيوف.
وللحفاظ على هذا الموروث الأصيل سعت المملكة سعيًا حثيثًا للحفاظ عليه من خلال عدة مبادرات وجهود بارزة، لكون الإبل جزءًا مهمًا من الهوية الثقافية الوطنية، إذ أسست مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل الذي أُطلقت فعاليات نسخته التاسعة في 1 ديسمبر 2024م في أرض الصياهد تحت شعار "عز لأهلها"، لتأصيل موروث الإبل وتعزيزه محورًا للهوية الثقافية السعودية، ويعد الأكبر من نوعه على مستوى العالم، ويجمع محبي الإبل من داخل المملكة وخارجها، ويهدف إلى إبراز الدور التاريخي للإبل، كما أنشأت المملكة نوادي ومراكز متخصصة لدعم مربي الإبل، مثل نادي الإبل الذي يشرف على تنظيم الفعاليات والمهرجانات المتعلقة بالإبل، ويعمل على توثيق السلالات الأصيلة وحماية التنوع الوراثي للإبل، ويقدم النادي خدمات تضمن المحافظة على هذا الموروث عبر تعزيز الوعي بأهمية الإبل ودورها في الثقافة السعودية.
واستمرارًا لتلك العناية تبذل المملكة جهودًا دؤوبة في مجال البحث والدراسات من خلال دعم الباحثين والمؤسسات الأكاديمية المعنية بدراسة تاريخ الإبل واستخداماتها في حياة الإنسان، واختتمت وزارة الثقافة في نوفمبر الماضي أعمال فرز وتقييم المشاركات في منحة "دراسات الإبل"؛ لتعزيز الإنتاج البحثي الثقافي للموضوعات المرتبطة بالحياة الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية في قطاع الإبل، وشارك فيها العديد من الباحثين من مختلف الجامعات.
وتأكيدًا لاهتمام المملكة وعنايتها بتراثها الثقافي وموروثها العريق، وترسيخ عناصر الهوية الحضارية والتاريخية والثقافية، جاءت تسمية عام 2024 بـ"عام الإبل"؛ بهدف تعزيز التراث الوطني وجعله جزءًا من الثقافة المحلية والعالمية، ولتستمر الأجيال القادمة في تقدير هذا الموروث وحمايته.
1