اعتلاء رئيس جديد لسدة الحكم والإدارة في واشنطن، عادة ما يكون مناسبة لترديد مقولات في جهات الدنيا الأربع، تجمع على أن كوكبنا بصدد حدث، تتجاوز أهميته الرحاب الأمريكية. هذه الظاهرة الموسمية، تعد نتاجاً طبيعياً لتربع الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي، وما يستتبع هذه الوضعية من تغلغلات وتأثيرات وسياسات ومواقف وأدوار، تبدو حاسمة أحياناً، في تحديد مسارات ومصائر قضايا داخلية وإقليمية ودولية يصعب حصرها.
يقترن بهذه التعميمات، ويرتبط بها ويترتب عليها، انشغال أوساط وفواعل من مختلف المراتب على سلم القوى الدولية بهذا «الحدث»، بحيثية استثنائية، باعتباره أمريكياً جغرافياً ومكانياً، لكنه بالتأكيد أيضاً عالمي الإشعاع والتداعيات. وفي تقديرنا أن الانشغال بنجاح دونالد ترامب في الانتخابات الأخيرة، يمثل، أو ينبغي له أن يمثل استثناءً شديد الخصوصية داخل هذا الاستثناء التقليدي القديم.
مبعث هذا التقدير، أن ترامب، برؤاه الفكرية ومعتقداته، وأساليب مقارباته ومنظوراته ومعالجاته للقضايا والهموم الداخلية والخارجية، ترامب بهذه الحمولة التي باتت تشكل نسيجاً أيديولوجياً وسياسياً بذاتها يوصف بـ«الترامبية»، ليس بالرئيس الطارئ أو المستجد في البيئتين الأمريكية والدولية.. وعليه، يصح الاعتقاد بأن عملية إعادة تعويمه، دون تخليه عن معظم تكييفاته وتصوراته، المعلومة للكافة بحكم تجربته الرئاسية الأولى وخطابه الانتخابي بين يدي التجربة الثانية العتيدة، تنطوي على معنى القناعة الشعبية بالرجل إلى حد كبير.
ويتأكد هذا الفهم أكثر فأكثر، حتى يبلغ بنا الظن أنه سيحظى في عهده الثاني بما يشبه «التفويض العام»، في ضوء الأغلبية المريحة، التي تحف به حزبياً في المؤسسات السيادية.. فيما يعاني خصومه من صدمة فشل انتخابي، قد تلازمهم طوال فترته الرئاسية.
وفقاً لهذه المحددات، يكاد ترامب ينعم بشيء من خصائص القيادات الكاريزمية، بما قد يفضي إلى إطلاق يده إلى حد ملموس في تطبيق قناعاته، قياساً بكثير من أسلافه في البيت الأبيض ؛ الذين خضعوا لتعقيدات كان بعضها تعجيزياً.
بكلام آخر، من كان يظن أن ترامب، الصاخب العنيد ؛ المتطرف في أحانينه وعواطفه لشعارات «العظمة الأمريكية» و«أمريكا أولاً»؛ المستاء من أنماط التحالف مع قوى تستحلب الموارد الأمريكية كحلف الناتو؛ الراغب في إعادة صياغة العلاقات مع الشركاء أو المنافسين التجاريين وتكريسها في خدمة الاقتصاد الأمريكي؛ المتنمر ضد المهاجرين والهجرة غير الشرعية؛ المنحاز للبروتستانت البيض من ذوي الأصول الأنجلوساكسونية.. من كان يظن أن ترامب هذا ليس أكثر من حالة عابرة مرت وانطوت، عليه أن يعيد حساباته.
للإنصاف، هناك حراكات، في المحيط الدولي بالذات، تشي بوعي بعض المعنيين بهذه الحقيقة.. الأوروبيون، مثلاً، يسعون حثيثاً، على المستويات القومية والثنائية والجماعية القارية، لاستطلاع الحدود والآفاق التي قد تترتب على سخط ترامب تجاه ما يعتبره تقصيراً منهم، في تمويل حلف الناتو. ويتساءلون عما يمكنهم فعله إذا ما مضى الرجل وإدارته في طريق العزلة والتخفف من هذا «العبء». ولنا أن نلحظ بالخصوص، أي مخاوف تتناوشهم باعتبار أن هذا التوجه يباغتهم وهم في إطار معمعة أوكرانيا الدامية، التي لا يعرفون على أي شاطئ سوف تستقر. والمفارقة هنا، أنهم يتهامسون حول الصيغة السحرية، سريعة المفعول، التي سيفي بها الرئيس الأمريكي بوعده بإيقاف هذه المعمعة.. وهم إذ يفعلون ذلك، تنتابهم الظنون بأنها صيغة لن تنصفهم.
ظاهر حال الأوروبيين، يوحي بالحيرة والارتباك والتربص، وربما الهرولة إلى تصفيف الأوراق، استعداداً للتعامل مع زعيم أمريكي، له أجندة تؤذن بتحولات فارقة لما استقرت عليه العلاقة داخل دائرة «عالم الغرب» لعشرات السنين. ومن الطرائف الموصولة بهذا المشهد، ما ورد بصحيفة وول ستريت جورنال من أن أورسولا فون درلاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، أعدت غرفة نوم في مكتبها كي تستطيع العمل على مدار الساعة، لاسيما بشأن تلمس سبل مد الجسور والحيلولة دون الصدام مع هذه الأجندة!
يستقبل الأوروبيون ولاية ترامب الثانية بمشاورات ومداولات تستدعي للذهن حالة الطوارئ.. ولنا أن نقول مثل ذلك وأكثر، في وصف ما يتفاعل من حراكات في أفلاك قضايا إقليمية أخرى، الشرق الأوسط في طليعتها.. تلك القضايا الزاخرة بالمصالح والمداخلات الأمريكية؛ التي ينتظر أطرافها على صفيح ساخن خطوات هذه الولاية ومبادراتها، بعد العشرين من يناير المقبل، بهواجس لا يدعو معظمها للتفاؤل.