لا يزال "ديب سيك" التطبيق الصيني الجديد للذكاء الاصطناعي الصيني المثير للجدل والقلق، أحياناً، يواصل الانتشار وسط صدمة من منافسيه الأمريكيين وغيرهم في العالم خاصة بعد أن أطاح بتطبيق "تشات جي بي تي" من عرشه باعتباره التطبيق المجاني الأكثر تحميلاً في الولايات المتحدة.
فما هو التطبيق ومن يقف وراءه ومن هو صاحبه الذي وصفه مقربون منه بأنه رجل "مهووس"
بدأت قصة "ديب سيك" يناير الماضي وأدى إلى شهرة مؤسسه الملياردير الصيني ليانج وينفينج (40 عاماً) بين عشية وضحاها، بحسب تقرير بموقع "بي بي سي" الذي أشار إلى أن التطبيق يقال إنه تم تطويره بجزء بسيط من ميزانيات منافسيه، مما تسبب في اهتزاز وول ستريت وتسارع المنافسين إلى اللحاق به، لتصل شهرته إلى أن وصفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه "جرس إنذار" للشركات الأمريكية "للتنافس للفوز"، قائلاً خلال مؤتمر للحزب الجمهوري في ميامي: "نأمل أن يكون إطلاق ديب سيك للذكاء الاصطناعي من شركة صينية بمثابة جرس إنذار لحاجة صناعاتنا إلى التركيز الحاد على المنافسة للفوز".
المهووس
تأسست شركة ديب سيك في ديسمبر 2023 على يد ليانج وينفينج، وأصدرت أول نموذج لغة للذكاء الاصطناعي في العام التالي. لا يُعرف الكثير عن الرجل البالغ من العمر 40 عاماً، والذي ولد في مقاطعة قوانغدونغ بجنوب الصين وتخرج في جامعة تشجيانغ في هندسة المعلومات الإلكترونية وعلوم الكمبيوتر.
وفي مقال على المنفذ التقني "36Kr"، يقول أشخاص يعرفونه إنه "أشبه بالمهووس أكثر من كونه رئيساً". لكن ليانج، الذي نادراً ما يظهر علناً أو يجري مقابلات، يجد نفسه الآن في دائرة الضوء الدولية.
وكان ليانج هو الزعيم الوحيد في مجال الذكاء الاصطناعي الذي تم اختياره لحضور اجتماع معلن لرجال الأعمال مع ثاني أقوى زعيم في البلاد، لي تشيانج، وطلب من رجال الأعمال "تركيز الجهود لاختراق التقنيات الأساسية الرئيسية".
وعلى عكس العديد من رواد الأعمال الأمريكيين في مجال الذكاء الاصطناعي الذين ينتمون إلى وادي السيليكون، يتمتع ليانج أيضاً بخلفية في مجال التمويل، فهو الرئيس التنفيذي لصندوق التحوط المسمى "High-Flyer"، الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات المالية لاتخاذ قرارات الاستثمار، أي ما يسمى بالتداول الكمي، بحسب "بي بي سي".
ونشر المركز الروسي الإستراتيجي للثقافات تحليلًا للكاتب فلاديمير بروخفاتيلوف حول برنامج الدردشة الصيني "ديب سيك"، متسائلاً عن سبب الهستيريا التي أثارها لدى شركات الذكاء الاصطناعي الأميركية، وموضحاً أن شركات التكنولوجيا الأمريكية، التي حظيت بكثير من الدعاية، ليست سوى مستهلكة لمليارات الدولارات، تمامًا مثل المجمع الصناعي العسكري.
وأشار الكاتب، بحسب موقع الجزيرة نت، إلى أن شركة صينية ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي أذهلت وادي السيليكون وول ستريت، بعرضها نموذج ذكاء اصطناعي يضاهي نماذج شركة "أوبن إيه آي" الأميركية الرائدة في تطوير الذكاء الاصطناعي، ولكن بتكلفة أقل بكثير واستهلاك أقل للطاقة.
ووفقاً لبيانات "ديب سيك"، فقد بلغت تكلفة تطوير وتدريب برنامج الدردشة 5.6 ملايين دولار، وفي الوقت نفسه تروّج الشركات الأمريكية المنافسة مثل "أوبن إيه آي" و"ميتا" لإنفاق عشرات المليارات على نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها، والتي تعمل على أحدث الرقائق من شركة "إنفيديا".
وأوضح الكاتب أن الإطلاق المذهل لبرنامج الدردشة الصيني أثار عملية بيع عالمية لأسهم شركات التكنولوجيا الأمريكية، ففي صباح يوم الإثنين 27 يناير انخفضت العقود الآجلة لمؤشر "ناسداك" ومتوسط "داو جونز الصناعي" ومؤشر "إس آند بي 500".
ويقول "بي بي سي" أن إطلاق شركة صينية صغيرة لتطبيق روبوت دردشة جديد باسم "ديب سيك" DeepSeek، مدعوم بتقنية الذكاء الاصطناعي، أدى إلى حدوث اضطراب في سوق الأسهم، فضلاً عن حالة جدل غير مسبوقة. فما الذي يميز التطبيق عن غيره؟
أثار إطلاق تطبيق روبوت الدردشة الصيني "ديب سيك" موجة من التغيير في قطاع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بعد أن تفوق سريعاً على تطبيق "تشات جي بي تي" التابع لشركة "أوبن إيه آي"، ليصبح التطبيق المجاني الأكثر تحميلاً على أنظمة تشغيل آيفون في الولايات المتحدة، وهو ما تسبب في إلحاق خسارة فادحة لشركة "إن فيديا"، المتخصصة في تصنيع الرقائق، بلغت نحو 600 مليار دولار من قيمتها السوقية خلال يوم واحد، مسجلاً رقماً قياسياً جديداً في سوق الأسهم الأمريكية.
فلماذا كل هذه الضجة؟
يوضح موقع بي بي سي أن النموذج اللغوي الكبير (LLM) الذي يغذي التطبيق يتمتع بقدرات تحليلية تقارب نماذج أمريكية مثل نموذج "o1" التابع لشركة "أوبن إيه آي"، لكنه، بحسب خبراء، يتطلب تكلفة قليلة لتدريبه وتشغيله.
وتقول "ديب سيك" DeepSeek أنها حققت ذلك من خلال اعتماد استراتيجيات تقنية قلّلت من الوقت الحسابي المطلوب لتدريب نموذجها المسمى "آر1"، ومن حجم الذاكرة اللازمة لتخزينه، وتقول الشركة إن تقليل هذه التكاليف الإضافية أدى إلى خفض هائل في التكلفة.
وتفيد تقارير أن تدريب النموذج الأساسي "آر1-الإصدار الثالث" استغرق نحو 2.788 مليون ساعة تشغيل من خلال العديد من وحدات معالجة الرسومات "GPUs" في وقت واحد، بتكلفة تقديرية تقل عن 6 ملايين دولار، مقارنة بأكثر من 100 مليون دولار التي صرّح بها سام ألتمان، رئيس شركة "أوبن إيه آي"، كتكلفة لازمة لتدريب "جي بي تي-الإصدار الرابع".
وعلى الرغم من الخسائر التي لحقت بالقيمة السوقية لشركة "إن فيديا"، فإن نماذج "ديب سيك" جرى تدريبها باستخدام ما يقرب من ألفي وحدة معالجة رسومات من طراز "إن فيديا إتش800"، وفقاً لورقة بحثية أصدرتها الشركة.
وتعدّ هذه الرقائق نسخة معدّلة من شريحة "إتش100" الشائعة، وقد صُممت خصيصاً لتناسب قوانين التصدير إلى الصين، وثمة احتمال أن تكون الشركة قد لجأت إلى تخزين كميات من هذه الشرائح قبل أن تشدّد إدارة الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن، القيود في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهي خطوة أدت بالفعل إلى حظر تصدير رقائق "إتش800" إلى الصين.
ويلفت الإصدار الأخير من "ديب سيك" الأنظار أيضاً بسبب ما يعرف بـ "الأوزان" الخاصة به، وهي المعاملات الرقمية للنموذج التي يجري الحصول عليها من خلال عملية التدريب، وكانت الشركة قد نشرت تلك المعلومات علناً، بالإضافة إلى ورقة تقنية تشرح عملية تطوير النموذج، وهو ما يتيح للمجموعات الأخرى إمكانية تشغيل النموذج على معداتها الخاصة وتكييفه ليلائم مهام أخرى.
والسؤال ماذا يعني كل هذا بالنسبة لمستقبل الذكاء الاصطناعي؟
ربما تبرهن "ديب سيك" على أنه ليس من الضروري امتلاك موارد ضخمة لبناء نماذج ذكاء اصطناعي معقدة. ومن المتوقع أننا سنرى نماذج ذكاء اصطناعي قوية يجري تطويرها باستخدام موارد أقل بشكل متزايد، في ظل بحث الشركات عن طرق لزيادة كفاءة تدريب النماذج وتشغيلها.
وتهيمن شركات "التكنولوجيا الكبرى" في الولايات المتحدة، حتى الآن، على قطاع الذكاء الاصطناعي، وكان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، قد وصف صعود "ديب سيك" بأنه "دعوة لاستيقاظ" قطاع التكنولوجيا الأمريكي.
بيد أن هذا التطور قد لا يكون خبراً سيئاً لشركات مثل "إن فيديا" على المدى الطويل، ففي ظل تراجع تكاليف تطوير منتجات الذكاء الاصطناعي سواء من حيث المال أو الوقت، سيكون من الأسهل على الشركات والحكومات تبني هذه التكنولوجيا، وهو ما سيؤدي بدوره إلى زيادة الطلب على المنتجات الجديدة والرقائق التي تستخدمها، وهكذا يستمر العمل.
ويبدو أنه من المحتمل أن تلعب الشركات الأصغر مثل "ديب سيك" دوراً متزايداً في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي التي قد تجعل حياتنا أسهل، وسيكون من الخطأ تجاهل ذلك.
ما الذي يجعل ديب سيك مميزاً؟
يقول موقع "فرانس 24" إنه بعد إطلاق "تشات جي بي تي" في أواخر عام 2022، تسابقت شركات صينية لتطوير تطبيقات مشابهة، لكن المحاولات الأولى لم تحقق نجاحا كبيرا، خاصة مع خيبة الأمل التي رافقت إطلاق تطبيق مشابه من شركة بايدو الصينية.
ومع ذلك، نجح تطبيق ديب سيك في تغيير هذا التصور. وأوضحت الشركة أن النموذجين الرئيسيين للتطبيق، "ديب سيك-في3" و"ديب سيك-آر1"، يتمتعان بمستوى تقني مماثل أو أفضل من النماذج المتقدمة لشركتي أوبن.إيه.آي وميتا، وبكلفة تطوير أقل بـ20 إلى 50 مرة، بحسب "فرانس 24".
وأشارت الشركة إلى أن تدريب النموذج "ديب سيك-في3" باستخدام شرائح إنفيديا "إتش-800" كلف أقل من ستة ملايين دولار. لكن محللين في شركة بيرنشتاين أبدوا شكوكا حول هذه التصريحات، مشيرين إلى أن التكلفة الحقيقية قد تكون أعلى بكثير.