دخل لبنان مرحلة تاريخية جديدة من حياته السياسية بعدما نجح في انتخاب العماد جوزاف عون رئيسا للبلاد قبل خمسة أيام، والذي قام بدوره أمس عقب استشارات نيابية مكثفة بتكليف القاضي المخضرم نواف سلام بتشكيل حكومة ستخلف حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها نجيب ميقاتي.
وبحسب الدستور اللبناني، يسمي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة استنادا إلى نتائج الاستشارات النيابية، ويكلف المرشح الذي ينال العدد الأكبر من الأصوات، حيث نال سلام خلال هذه الاستشارات 84 صوتا من النواب، فيما نال ميقاتي 9 أصوات، وامتنع عن التصويت 35 نائبا، ليعلن الرئيس عون في ختام الاستشارات عن أمله بأن يكون التأليف الوزاري سلسا وفي أسرع وقت.
وقد أجرى ميقاتي اتصالا برئيس الحكومة المكلف الدكتور نواف سلام، متمنيا له التوفيق في مهمته الجديدة بتشكيل حكومة تتلاقى مع المبادئ والأسس التي حددها الرئيس عون في خطاب القسم، وتواكب تطلعات اللبنانيين التواقين إلى استكمال مسيرة بناء الدولة وتعزيز سلطتها على كل الأراضي اللبنانية.
وأعرب ميقاتي عن قناعاته بأن لبنان لا يحكم إلا بالاعتدال والتوافق بعيدا عن الإقصاء والتشفي، مؤكدا أن كل التجارب الماضية أثبتت أن لا بديل عن التوافق، وأن نهج التحدي أدى إلى إضاعة الكثير من الفرص، كما عبر ميقاتي عن أمله بأن تحمل المرحلة الجديدة للبنانيين الخير والسلام وراحة البال.
وقد عاد سلام إلى بيروت اليوم قادما من لاهاي حيث مقر محكمة العدل الدولية التي يرأسها، وسيلتقي رئيسي الجمهورية والبرلمان في قصر /بعبدا/، ومن المتوقع أن يتوجه بكلمة إلى اللبنانيين.
ووصفت تقارير إعلامية في بيروت تكليف سلام بأنه خطوة تحول ذات دلالات كثيرة من شأنها أن تضع لبنان على طريق التعافي والاتجاه الإيجابي من أجل التغيير نحو الأفضل، والسعي للوفاق واستعادة سيادة القانون وبما يضع البلاد من جديد على السكة العربية والإقليمية والدولية.
واعتبرت مصادر صحفية لبنانية أن تكليف الرئيس الجديد بتشكيل حكومة جديدة لا يعني أن ولادتها باتت قريبة، فغالبا ما استغرقت هذه المهمة أسابيع أو حتى أشهرا بسبب الانقسامات السياسية والشروط المضادة في بلد يقوم نظامه على مبدأ المحاصصة.
وستكون المهمة الأولى أمام نواف سلام هي تشكيل حكومة تحظى بدعم مختلف الأطراف اللبنانية الممثلة في مجلس النواب قبل الانتقال لمعالجة الملفات العاجلة وفي مقدمتها إنجاز خطة التعافي الاقتصادي وإعادة الأموال المودعة في المصارف إلى أصحابها بعد أكثر من 5 سنوات على حجزها، وكذلك التعامل مع الاعتداءات والخروقات الإسرائيلية، وإعادة الإعمار بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على الأراضي اللبنانية.
ويأمل داعمو سلام في أن يشكل وصوله إلى رئاسة الحكومة فرصة لإحداث تغيير في أداء المؤسسات الرسمية وتنفيذ العناوين العريضة التي أعلنها الرئيس المنتخب جوزاف عون في خطاب القسم، حينما أكد في خطاب القسم أن بلاده تواجه أزمة حكم يفترض فيها تغيير الأداء السياسي في رؤيتها لحفظ أمنها وحدودها وفي سياساتها الاقتصادية، وفي تخطيطها لرعاية شؤونه الاجتماعية، وفي مفهوم الديمقراطية وفي حكم الأكثرية وحقوق الأقليات، وفي صورة لبنان في الخارج وعلاقاته بالاغتراب، وفي فلسفة المحاسبة والرقابة وفي مركزية الدولة وفي محاربة البطالة ومكافحة الفقر، موضحا أن الأزمة هي أزمة حكم وحكام وعدم تطبيق الأنظمة أو سوء تطبيقها وتفسيرها وصياغتها.
وتعهد عون ببدء مرحلة جديدة من تاريخ لبنان، والإخلاص للشعب اللبناني والحفاظ على الميثاق ووثيقة الوفاق الوطني والالتزام بتطبيقها بما يخدم المصلحة الوطنية العليا، وقال إن بناء الوطن يتطلب أن يكون الجميع تحت سقف القانون وتحت سقف القضاء حيث لا صيف ولا شتاء على سطح واحد بعد الآن، مؤكدا أن العدل هو الفاصل وهو الحصانة الوحيدة بيد كل مواطن.
كما تعهد الرئيس اللبناني بالعمل على تأكيد حق الدولة في احتكار حمل السلاح، وهي دولة تستثمر في جيشها ليضبط الحدود ويساهم في تثبيتها جنوبا وترسيمها شرقا وشمالا وبحرا ويمنع التهريب ويحارب الإرهاب ويحفظ وحدة الأراضي اللبنانية ويطبق القرارات الدولية ويحترم اتفاق الهدنة ويمنع الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية، وبالدعوة لمناقشة سياسة دفاعية متكاملة كجزء من استراتيجية أمن وطني بما يمكن الدولة اللبنانية من إزالة الاحتلال الإسرائيلي ورد عدوانه عن كافة الأراضي اللبنانية.
كما تعهد بإعادة إعمار ما هدمه العدوان الإسرائيلي في الجنوب والبقاع والضاحية وجميع أنحاء لبنان بشفافية، والتمسك بحل الدولتين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإقامة أفضل العلاقات مع الدول العربية الشقيقة انطلاقا من أن لبنان عربي الانتماء والهوية، وبناء الشراكات الاستراتيجية مع دول المشرق والخليج العربي وشمال إفريقيا ، وممارسة سياسة الحياد الإيجابي، وأن لا يصدر لبنان لها سوى أفضل ما لديه من منتوجات وصناعات، وأن يستقطب السياح والطلبة والمستثمرين العرب لمواكبة تطورهم وبناء اقتصادات متكاملة ومتعاونة.
يذكر أن رئيس الوزراء المكلف نواف سلام، البالغ من العمر واحدا وسبعين عاما، يجمع بين خبرات سياسية وحقوقية ودبلوماسية تخطت نطاق البلد المتوسطي الصغير، ما يجعله من خارج الطبقة التقليدية الحاكمة في لبنان، وقد انتخب في فبراير الماضي رئيسا لمحكمة العدل الدولية، وينحدر من عائلة بيروتية عريقة تعاطت الشأن السياسي منذ بداية القرن الماضي، وهو ابن شقيق صائب سلام، الذي ترأس حكومات لبنانية عدة بين الأعوام 1952 و1973، كما ترأس ابن عمه تمام سلام الحكومة اللبنانية بين عامي 2014 و2016.
ولنواف سلام مسيرة أكاديمية ومهنية طويلة لعل أبرزها توليه منصب المندوب الدائم للبنان لدى الأمم المتحدة في نيويورك، كما شغل عضوية بعثات ميدانية تابعة لمجلس الأمن إلى دول عدة بينها السودان وأفغانستان وأوغندا، وألف العديد من الكتب والدراسات في مجالات القانون الدولي والقانون الدستوري والانتخابي والإسلامي، إضافة إلى دراسات حول المنظمات الدولية والشؤون الدولية.
ويحمل سلام شهادتي دكتوراه في العلوم السياسية وفي التاريخ، وقد حاضر خلال سنوات في الجامعة الأمريكية في بيروت وجامعات أخرى في الخارج بينها السوربون بين عامي 1979 و1981.
